العلامة الخامسة والسادسة إلى العاشرة من علامات الساعة الكبرى.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعـد
خـــروج الـدابـــــــــة، والــــــــدخـــــان
جاء ذكر خروج الدابة والدخان في القرآن والسنة، فأما في القرآن فمن قوله تعالى: )وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرض تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ ([1]. وقوله تعالى: ) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ([2].
وأما ذكرهما في السنة، فمن الحديث الذي ذكرناه فيما مضى أن رسول الله r قال: {لن تقوم الساعة حتى يكون قبلها عشر آيات طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة وخروج يأجوج ومأجوج والدجال وعيسي بن مريم والدخان وثلاث خسوف خسف بالمغرب} [3].
وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: {إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى فأيتهما ما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريبا} [4].
وقوله عليه الصلاة والسلام: {بادروا بالأعمال ستا طلوع الشمس من مغربها والدخان ودابة الأرض والدجال وخويصة أحدكم وأمر العامة} [5].
وقد وردت في خروج الدابة جملة من الأحاديث الضعيفة لا تقام بها الحجَّة فعدلنا عنها، ويكفي أن نعلم أنَّ خروج الدابة هوتأكيد على أن باب التوبة أغلق، وختم على كل إنسان عمله، إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر، وتأتي الدابة لتبرهن ذلك عملياً، فهي تجلي وجه المؤمن وتخطم أنف الكافر، فيعرف المؤمن نفسه وكذلك الكافر، بل إنهم ليعلم بعضهم بعضا، حيث قال r: {تخرج الدابة فتسم الناس على خراطيمهم، ثم يعمرون فيكم، حتى يشتري الرجل الدابة، فيقال: ممن اشتريت؟ فيقول: من الرجل المخطم} [6].
وأخرج الإمام أحمد حديثاً قال فيه : {فتخطم أنف الكافر بالخاتم، وتجلو وجه المؤمن بالعصا، حتى إن أهل الخوان الواحد ليجتمعون فيقول هذا: يا مؤمن، ويقول هذا: يا كافر}[7].
والمتفق عليه أن هذه الدابة تخرج فتخطم أنف الكافر، بغض النظر ما الوسيلة التي بها تخطم أنفه، المهم أن تعلمه بعلامة، فلا تفارقه أبداً إلى أن يخرج من هذه الدنيا بموته، فمن خلالها يعرف الكافر نفسه، ويتعرف المؤمن على الكافر، والله أعلم.
قال ابن كثير: (هذه الدابة تخرج في آخر الزمان عند فساد الناس، وتركهم أوامر اللّه، وتبديلهم دين الحق، يخرج اللّه لهم دابة من الأرض. قيل: من مكة، وقيل من غيرها فتكلم الناس على ذلك، قال ابن عباس والحسن وقتادة: تكلمهم كلاماً أي تخاطبهم مخاطبة، وقال عطاء الخراساني: تكلمهم فتقول لهم: إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون، ويروى هذا عن علي واختاره ابن جرير (انظر تفسير القرآن العظيم 6/210).
وقد ورد بعض الآثار أن الدابة تخرج من موضع بالبادية قريباً من مكة، ويروى عن ابن عباس أنها تخرج من بعض أودية تهامة، وعن ابن مسعود: (أنها تخرج من صدع بالصفا) انظر مختصر ابن كثيرللصابوني (2/903). والله تعالى أعلى وأعلم
وأما آية الدخان:
فقد جاء في تفسير ابن كثير الآتي: (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين)، قال ابن جرير عن أبي مالك الأشعري t قال: قال رسول الله r: {إن ربكم أنذركم ثلاثا الدخان؛ يأخذ المؤمن كالزكمة، ويأخذ الكافر فينتفخ، حتى يخرج من كل مسمع منه، والثانية الدابة، والثالثة الدجال} [8].
وروى ابن أبي حاتم عن الحسن عن أبي سعيد الخدري t أن رسول الله r قال: {يهيج الدخان بالناس؛ فأما المؤمن فيأخذه كالزكمة، وأما الكافر فينفخه، حتى يخرج من كل مسمع منه}[9].
وروى ابن أبي حاتم عن علي t قال: (لم تمض آية الدخان بعد، يأخذ المؤمن كهيئة الزكام، وتنفخ الكافر حتى ينفذ).
وروى ابن جرير عن عبدالله بن أبي مليكة قال غدوت على ابن عباس {ذات يوم فقال ما نمت الليلة حتى أصبحت قلت لم؟ قال: قالوا طلع الكوكب ذوالذنب فخشيت أن يكون الدخان قد طرق فما نمت حتى أصبحت وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس { فذكره وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس - حبر الأمة وترجمان القرآن- وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرهما التي أوردوها مما فيه مقنع ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة مع أنه ظاهر القرآن قال الله تبارك وتعالى )فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين( أي بين واضح يراه كل أحد.
فالدخان هو العلامة السادسة والأخيرة التي يراها المؤمنون، حيث إنه لا يضرهم شيئا وإنما يصيبهم من الدخان كما يصيب الرجل الزكام، وبهذه العلامة يكون المؤمنون قد شهدوا من العلامات الكبرى الآتي:
الدجال – المسيح # – خروج يأجوج ومأجوج – طلوع الشمس من مغربها – خروج الدابة – الدخان.
وبعدها يمن الله تعالى على عباده المؤمنين بأن تأتي ريح ليِّنة من قبل اليمن، فتقبض أرواح المؤمنين جميعاً حتى لا يروا الأهوال العظيمة لقيام الساعة، ولا تُخَلَّفُ إلا النفس الكافرة تمهيداً لصب العذاب عليهم صباً والحمد لله رب العالمين قال r: {تجيء ريح بين يدي الساعة فيقبض فيها روح كل مؤمن} [10].
وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: {إن الله تعالى يبعث ريحا من اليمن ألين من الحرير فلا تدع أحدا في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا قبضته}[11]. فيموت المؤمنون بتلك الريح الطيبة التي أرسلت رحمة من رب العالمين، لعباده المؤمنين، فلا يبقى على وجه هذه المعمورة إلا شرار الخلق، لكع ابن لكع لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا فعليهم تقوم الساعة والعياذ بالله ولهذا جاء عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله r يقول: {إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء ومن يتخذ القبور مساجد}[12]. وجاء عن أنس أن رسول الله r قال: {لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله}.
وفي رواية {لا تقوم الساعة على أحد يقول الله الله} [13]، – أي لا إله إلا الله -.
وقال عليه الصلاة والسلام: {من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء} [14]. وقال r: {يذهب الصالحون، الأول فالأول ويبقى حفالة كحفالة الشعير والتمر لايباليهم الله بالة} [15].
* جاء في لسان العرب معنى الحفالة عدة معان منها: حُفَالةُ الطعام: ما يُخْرَج منه فـيُرْمى به. والـحُفَالة والـحُثالة: الرديءُ من كل شيء. والـحُفَالة أَيضاً: بَقِـيَّة الأَقماع والقُشور فـي التمر والـحَبِّ، وقـيل: الـحُفالة قُشارة التمر والشعير وما أَشبهها. وجاء معناها فـي هذا الـحديث: {وتبقـى حُفَالة كحُفَالة التمر أَي رُذالة من الناس كرَديء التمر ونُفايَتِه}، وهومِثْل الـحُثَالة، بالثاء، قال الأَصمعي: (هومن حُفَالتهم وحُثَالتهم أَي مـمن لا خير فـيه منهم)، قال: (وهوالرَّذْل من كل شيء) انتهى.
قال r: {.. ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته حتى لوأن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلت عليه حتى تقبضه فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا فيتمثل لهم الشيطان فيقول ألا تستجيبون فيقولون بم تأمرنا فيأمرهم بعبادة الأوثان فيعبدونها وهم في ذلك دار رزقهم حسن عيشهم} [16].
وفي رواية لمسلم أيضاً زيادة وهي: {ويبقى شرار الناس، يتهارجون فيها تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة}، ومعنى يتهارجون تهارج الحمير - أي يجامع الرجال النساء بحضرة الناس كما يفعل الحمير ولا يكترثون لذلك، والهرج بإسكان الراء الجماع يقال: هرج زوجته أي جامعها.
قاله النووي في شرحه لهذا الحديث: (إذن بعد موت المؤمنين تعود ثانية عبادة الأصنام، تظهر على الأرض بإيعاز من إبليس اللعين.
وجاء عن عائشة قالت سمعت رسول الله r: {يقول لا يذهب الليل والنهار حتى يعبد اللات والعزى}، فقلت: يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله: {هوالذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولوكره المشركون} أن ذلك تاما، قال: {إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحا طيبة فتوفي كل من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم}[17].
ويرتفع القرآن أيضاً بعد موت المؤمنين، فلا تبقى منه على وجه الأرض آية، حيث جاء عن الحبيب المصطفى r أنه قال: {يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب؛ حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة، ولا نسك ولا صدقة، ويسرى على كتاب الله في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس؛ الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة، يقولون: لا إله إلا الله فنحن نقولها}[18].
وتهدم الكعبة من قبل عدومن أعداء الله - رجل من الحبشة يقال له:– (ذوالسويقتين)، وذلك لدقة ساقه، وإنه أفحج- فيهدمها حجراً حجرا، فعندها يرفع الله الحجر الأسود، فقد جاء عن ابن عمر قال: قال رسول الله r: {استمتعوا بهذا البيت، فقد هدم مرتين، ويرفع في الثالثة}[19].
وقد جاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: {يخرب الكعبة ذوالسويقتين من الحبشة}[20].
وجاء عن ابن عباس عن النبي r قال{ كأني به أسود أفحج يقلعها حجرا حجرا}[21] .
وجاء أيضاً: {يبايع لرجل بين الركن والمقام، ولن يستحل البيت إلا أهله، فإذا استحلوه فلا تسأل عن هلكة العرب، ثم تأتي الحبشة فيخربونه خرابا لايعمر بعده أبدا، وهم الذين يستخرجون كنزه} [22].
ولكن قبل أن يرى هؤلاء الأشرار أهوال يوم القيام، فهناك أهوال ما دون ذلك لم يروْها بعد؛ وهذه الأهوال هي ما تبقَّى من علامات الساعة الكبرى العشر، وهذا هومحور حديثنا، والذي سنتحدث حوله إن شاء الله تعالى، فمن تلك الأهوال؛ (ثلاثة زلازل مدمرة):
الزلزال الأول يكون في منطقة المشرق، مناطق روسيا والصين وإيران إلى غير ذلك من البلدان، يغير الطبيعة الجغرافية للأرض ومن جرَّاء ذلك الزلزال تخرج النار من المشرق , وفي رواية من قعر عدن - هذا والله أعلم ولست جازماً بذلك - وهذه النار هي آخر أشراط الساعة بالنسبة للترتيب الزمني، وأول أشراط الساعة والتي تأذن بفناء العالم.
وكذلك زلزال مدمر يكون في المغرب، وهذا الزلزال والله أعلم يغير جغرافية الأرض في المغرب - مناطق أوروبا وأمريكا إلى غير ذلك.
وكذلك زلزال مدمر يكون في جزيرة العرب، فتكون المنطقة الحيوية هي بلاد الشام، وهذا تقدير العليم الحكيم، كي تكون بلاد الشام أرض المحشر والمنشر، إذن من أشراط الساعة كما قال r:
{... وخسوف بالمشرق وخسوف بالمغرب وخسوف بجزيرة العرب...)[23].
* انحسار الفرات عن كنز من ذهب.
جاء عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: {لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب يقتتل الناس عليه؛ فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون، ويقول كل رجل منهم: لعلي أكون أنا الذي أنجو}[24].
وفي رواية: {يوشك الفرات أن يحسر عن جبل من ذهب، فإذا سمع به الناس ساروا إليه، فيقول من عنده: والله لئن تركنا الناس يأخذون منه ليذهبن به كله، فيقتتلون عليه، حتى يقتل من كل مائة تسعة وتسعون} [25].
نأتي إلى آخر علامة من العلامات العشر التي أخبر عنها النبي r في هذا الحديث: {لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج، والدابة، وثلاثة خسوف؛ خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن؛ تسوق الناس أوتحشر الناس، فتبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم}[26].
إذن آخر علامة من علامات الساعة الكبرى نار من عدن، وهي أول علامة من علامات القيامة الكبرى والتي بعد خروج النار تقوم الساعة والعياذ بالله حيث تقوم على أشر خلق الله على الإطلاق.
وإليك أخي المسلم ما جاء من الأحاديث الشريفة بهذا الخصوص.
جاء عن أنس أن رسول الله r قال: {أول أشراط الساعة نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب}[27] .
وجاء عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال: قال رسول الله r: {ستخرج عليكم في آخر الزمان نار من حضرموت تحشر الناس} قال: قلنا: بما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: {عليكم بالشام} [28].
وجاء في حديث آخر قال r: {وآخر ذلك نار تخرج من اليمن، تطرد الناس إلى محشرهم}. وفي رواية: {نار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر}. وفي رواية في العاشرة: {وريح تلقي الناس في البحر}[29] .
قال الحافظ في الفتح (11/378):
وقد أشكل الجمع بين هذه الأخبار، وظهر لي في وجه الجمع أن كونها تخرج من قعر عدن؛ فإذا خرجت انتشرت في الأرض كلها، والمراد بقوله: (تحشر الناس من المشرق إلى المغرب) إرادة تعميم الحشر لا خصوص المشرق والمغرب، أوأنها بعد الإنتشار أول ما تحشر أهل المشرق، ويؤيد ذلك أن أول ابتداء الفتن دائماً من المشرق، وأما جعل الغاية إلى المغرب فلئن الشام بالنسبة إلى المشرق مغرب.
* ماذا تفعل هذه النار بعد خروجها؟
إنها تحشر الناس إلى محشرهم وهي بلاد الشام، جاء عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: {يحشر الناس يوم القيامة على ثلاث طرائق؛ راغبين وراهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير، وعشرة على بعير، ويحشر بقيتهم النار، تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا}[30].
وعند مسلم في حديث فيه ذكر الآيات الكائنة قبل قيام الساعة كطلوع الشمس من مغربها ففيه: {وآخر ذلك نار تخرج من قعر عدن ترحل الناس}.
وفي رواية له: {تطرد الناس إلى حشرهم}. ومعنى (تقيل معهم حيث قالوا .. إلخ) فيه إشارة إلى ملازمة النار لهم، إلى أن يصلوا إلى مكان الحشر.
قال الخطابي: هذا الحشر يكون قبل قيام الساعة تحشر الناس أحياء إلى الشام.
وأما الحشر من القبور إلى الموقف؛ فهوعلى خلاف هذه الصورة من الركوب على الإبل، والتعاقب عليها، وإنما هوعلى ما ورد في حديث ابن عباس في الباب: {حفاة عراة مشاة} قال: وقوله: {واثنان على بعير، وثلاثة على بعير .. إلخ} يريد أنهم يعتقبون على البعير الواحد يركب بعض ويمشي بعض.
وجاء في حديث معاوية بن حيدة جد بهز بن حكيم رفعه: {إنكم محشورون} ونحا بيده نحوالشام {رجالا وركبانا، وتجرون على وجوهكم}[31].
وحديث: {ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم، ويبقى في الأرض شرار أهلها، تلفظهم أرضوهم، وتقذرهم نفس الله، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير}[32].
وفي تفسير القرطبي والبغوي عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: من شك أن المحشر ههنا يعني الشام؛ فليقرأ أول سورة الحشر، قال لهم رسول الله r: {يومئذ اخرجوا} قالوا: إلى أين؟ قال: {إلى أرض المحشر}.
وحديث: {ستخرج نار من حضرموت تحشر الناس} قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: {عليكم بالشام}، فمن اغتنم الفرصة؛ سار على فسحة من الظَّهر، ويسرة في الزاد، راغبا فيما يستقبله، راهبا فيما يستدبره، وهؤلاء هم الصنف الأول في الحديث.
ومن توانى حتى قل الظَّهر، وضاق عن أن يسعهم لركوبهم، اشتركوا وركبوا عقبة، فيحصل اشتراك الاثنين في البعير الواحد، وكذا الثلاثة، ويمكنهم كل من الأمرين،
وأما الأربعة في الواحد؛ فالظاهر من حالهم التعاقب، وقد يمكنهم إذا كانوا خفافا أوأطفالا، وأما العشرة؛ فبالتعاقب.
وسكت عما فوقها إشارة إلى أنها المنتهى في ذلك، وعما بينها وبين الأربعة إيجازا واختصارا، وهؤلاء هم الصنف الثاني في الحديث.
وأما الصنف الثالث فعبر عنه بقوله: {تحشر بقيتهم النار} إشارة إلى أنهم عجزوا عن تحصيل ما يركبونه، ولم يقع في الحديث بيان حالهم، بل يحتمل أنهم يمشون أويسحبون، فرارا من النار التي تحشرهم.
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة t أنه قال: قال r: {تتركون المدينة على خير ما كانت؛ لا يغشاها إلا العوافي، وآخر من يحشر راعيان من مزينة، يريدان المدينة ينعقان بغنمهما، فيجدانها وحوشا، حتى إذا بلغا ثنية الوداع؛ خرا على وجوههما} .
قوله: {تتركون المدينة على خير ما كانت} أي على أحسن حال كانت عليه من قبل, {لا يغشاها إلا العوافي} من العفاء، وهوالموضع الخالي الذي لا أنيس به، فإن الطير والوحش تقصده، لأمنها على نفسها فيه. وقال النووي: المختار أن هذا الترك يكون في آخر الزمان عند قيام الساعة, ويؤيده قصة الراعيين فقد وقع عند مسلم بلفظ: {ثم يحشر راعيان} وفي البخاري: {أنهما آخر من يحشر}. ويؤيده ما روى مالك عن أبي هريرة رفعه: {لتتركن المدينة على أحسن ما كانت، حتى يدخل الذئب فيعوى على بعض سواري المسجد أوعلى المنبر}، قالوا: فلمن تكون ثمارها؟ قال: {لعوافي الطير والسباع}[33]. ويشهد له أيضا ما روى أحمد والحاكم وغيرهما من حديث محجن بن الأدرع الأسلمي قال: (بعثني النبي r لحاجة, ثم لقيني وأنا خارج من بعض طرق المدينة، فأخذ بيدي حتى أتينا أحدا, ثم أقبل على المدينة فقال: {ويل أمها قرية! يوم يدعها أهلها كأينع ما يكون}. قلت: يا رسول الله! من يأكل ثمارها؟ قال: {عافية الطير والسباع}2.
وروى عمر بن شبة بإسناد صحيح عن عوف بن مالك قال (دخل رسول الله r المسجد ثم نظر إلينا فقال: {أما والله ليدعنها أهلها مذللة أربعين عاما للعوافي, أتدرون ما العوافي؟ الطير والسباع} .
قوله: {وآخر من يحشر راعيان من مزينة ينعقان}، النعيق زجر الغنم, يطلب الكلأ, يزجرها عن المرعى الوبيل إلى المرعى الوسيم.
قوله: {فيجدانها وحوشا} أي خالية ليس بها أحد, والوحش من الأرض الخلاء, أوكثرة الوحش لما خلت من سكانها.
قال الحافظ في الفتح (6/104): الصحيح أن معناه يجدانها ذات وحوش, ويؤيده أن في بقية الحديث أنهما يخران على وجوههما، إذا وصلا إلى ثنية الوداع, وذلك قبل دخولهما المدينة بلا شك , فيدل على أنهما وجدا التوحش المذكور قبل دخول المدينة، فيقوى أن الضمير يعود على غنمهما، وكأن ذلك من علامات قيام الساعة.
وقد روى ابن حبان من طريق عروة عن أبي هريرة رفعه: {آخر قرية في الإسلام خرابا المدينة} المصدر السابق, وهويناسب كون آخر من يحشر يكون منها.
وعند ذلك تقوم الساعة، روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي r قال: {تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرَّجُلُ يَحْلُبُ اللِّقْحَةَ، فَمَا يَصِلُ الإِنَاءُ إِلَى فِيهِ حَتَّى تَقُومَ، وَالرَّجُلأنِ يَتَبَايَعَانِ الثَّوْبَ، فَمَا يَتَبَايَعَانِهِ حَتَّى تَقُومَ، وَالرَّجُلُ يَلِيطُ فِي حَوْضِهِ، فَمَا يَصْدُرُ حَتَّى تَقُومَ}.
وفي رواية: {ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه}.
ذكر ابن حجر في فتح الباري قوله: (ووقع في حديث عقبة بن عامر عند الحاكم لهذه القصة وما بعدها مقدمة، قال: قال رسول الله r: {تطلع عليكم قبل الساعة سحابة سوداء من قبل المغرب، مثل الترس، فما تزال ترتفع حتى تملأ السماء، ثم ينادي مناد :ٍ أيها الناس ثلاثا، يقول في الثالثة: أتى أمر الله} قال: {والذي نفسي بيده! ان الرجلين لينشران الثوب بينهما فما يطويانه}[34].
قوله: {ولتقومن الساعة وهو} أي الرجل قوله: {يليط حوضه} والمعنى يصلحه بالطين والمدر، فيسد شقوقه ليملأه ويسقي منه دوابه، يقال: لاط الحوض يليطه؛ إذ أصلحه بالمدر ونحوه. {ثم ينفخ في الصور فيكون أول من يسمعه رجل يلوط حوضه فيصعق} ففي هذا بيان السبب في كونه لا يسقي من حوضه شيئا.
ووقع عند مسلم. {والرجل يليط في حوضه فما يصدر} أي يفرغ أوينفصل عنه حتى تقوم. قوله: {فلا يسقي فيه} أي تقوم القيامة من قبل أن يستقي منه. قوله: {ولتقومن الساعة وقد رفع أُكلته} بالضم أي لقمته {إلى فيه فلا يطعمها} أي تقوم الساعة من قبل أن يضع لقمته في فيه، أومن قبل أن يمضغها، أومن قبل أن يبتلعها، وقد أخرجه البيهقي في البعث من طريق محمد بن زياد عن أبي هريرة رفعه: {تقوم الساعة على رجل أكلته في فيه يلوكها، فلا يسيغها ولا يلفظها}.
وللساعة أهوال، وأمور عظام، قد فاض ذكرها في كتاب الله تعالى، واصفاً إياها، وصفا لها، ومخوفاً وتخويفا بها، لعل العباد يتقون.
وفي الخاتمة: نسأل الله لنا ولكم ولسائر المسلمين حسن الختام، وأن يعيذنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يصرف عن المسلمين وديارهم وأوطانهم كل مكروه وسوء، وأن يوحد كلمتهم، ويجمعهم على الحق، ويهديهم إلى صراط مستقيم .
آميـــــــــــــــــــــــــــــن