الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعـد
*- ومن علامات الساعة الكبرى نزول المسيح عليه الصلاة والسلام من السماء وقبل أن نبدأ الحديث عن عيسى r وعن وصفه والأعمال التي يقوم بها بعد نزوله، لذلك لا بد من أن نشير إلى الأدلة في الكتاب والسنة التي تثبت نزول عيسى r وتدحض كثيراً من أقوال المتشدقين والمجادلين الذين لا يرون نزول عيسى r من السماء حقيقة واقعة لا محالة، وقد أشرنا في مقدمة هذه الحلقات إلى تأويل بعض أولئك لنزول عيسى r بأنه رمز معنوي للخير والعطاء والهداية إلى غير ذلك - أي يكون نزولاً معنوياً وليس حسِّياً حقيقياً -، بل وصل الحال بالبعض إلى أن ذهبوا بالقول أبعد من ذلك حيث قالوا: هل بقي عيسى r حياً؟ وسينزل إلى الأرض ليجدد دعوة دين الله بنفسه؟ أم المراد بنزول عيسى هوانتصار دين الحق، وانتشاره من جديد على أيدٍ مخلصة تعمل على تخليص المجتمع الإنساني من الشرور والأثام؟ إلى غير ذلك، فإليك أخي في الله نقض هذا وذاك بأدلة البيان من الكتاب والسنة والله المستعان.
أولاً قال تعالى: ) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ([1]. قال ابن كثير في تفسيره: المراد بالوفاة هاهنا النوم كما قال تعالى: )وهوالذي يتوفاكم بالليل( الآية وقال تعالى: )الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها( الآية وكان رسول الله r يقول إذا قام من النوم: {الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور} [2].وقال تعالى: )وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ( ، إلى قوله: )َمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً * وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً( (النساء من الآية 156 إلى 159).
والضمير في قوله: {قبل موته} عائد على عيسى r أي وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى وذلك حين ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة على ما سيأتي بيانه، فحينئذ يؤمن به أهل الكتاب كلهم لأنه يضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام أوالقتل، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الربيع بن أنس عن الحسن أنه قال في قوله تعالى: {إني متوفيك} يعني وفاة المنام رفعه الله في منامه.
وهذا امتحان الله لعباده لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وقد أوضح الله الأمر وجلاه وبينه وأظهره في القرآن العظيم الذي أنزله على رسوله الكريم، المؤيد بالمعجزات والبينات والدلائل الواضحة فقال تعالى وهوأصدق القائلين ورب العالمين المطلع على السرائر والضمائر، الذي يعلم السر في السموات والأرض، العالم بما كان وما يكون وما لم يكن لوكان كيف كان يكون
وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم( أي رأوا شبهه فظنوه إياه، وجاء عن ابن عباس في تفسير هذه الآية نحومن هذا وهو:
أنه لما تيقن عيسى عليه السلام أن بني يهود أتوْا لقتله، وكان في بيت ما من إحدى البيوت، وكان معه بعض أصحابه الحوارين، قال لهم عيسى عليه السلام : (من يجلس في مكاني فيلقي الله عليه شبهي ويكون رفيقي في الجنة؟) فبادر لذلك شاب منهم، ورفع الله تعالى عيسى إليه، فدخل المجرمون من بني يهود، فقتلوا ذلك الشاب وصلبوه، ووضعوا على رأسه الشوك وطافوا به إلى غير ذلك، فشاع الخبر بين الناس أن المسيح عليه السلام قد قتل ثم صلب.
ولهذا قال تعالى: )وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ( يعني بذلك من ادعى أنه قتله من اليهود، ومن سلمه إليهم من جهل النصارى كلهم في شك من ذلك وحيرة وضلال وسعر. أورده ابن كثير في تفسيره (2/449) 0
وفي هذه المناسبة أود أن أذكر هذه الأبيات كتبها بعض أهل العلم الأجلاء، ردَّاً على زعم النصارى أن المسيح هوابن الله، وأنَّ الله تعالى أنزله إلى الأرض ليفدي خطايا الناس بدمه، تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا، وأنَّ اليهود قد قتلوه ثم صلبوه، وإليك أخي المسلم هذه الأبيات:
عجبا للمسيح بين النصارى وإلى الله ولدا نسبوه
أسلموه إلى اليهود وقالوا إنهم من بعد قتله صلبوه
فلئن كان ما يقولون حقا وصحيحا فأين كان أبوه
حين خلى ابنه رهين الأعادي أتراهم أرضوه أم أغضبوه
فإذا كان راضيا بأذاهم فاشكروهم لأجـل ما صنعوه
وإذا كان ساخطا غير راضٍ فاعبدوهـم لأنهّــم غلبوه
وقال آخر
يا عُبَّاد المسيح لنا سؤالٌ نريد جواباً ممن وعاه
إن مات الإلــه بصنع قومٍ أماتوه فهل هذا إلـــه
ويا عجباً لقبرٍِ ضمَّ رباً وأعجب منه قبرٌ وعاه
فقام هناك تسعاً من الشهور من دم حيضٍ غزَّاه
ثمَّ شقَّ الفرج مولودٌ ضعيفٌ فاتحٌ للثدي فاه
يأكل ويشرب ثم يأتي بلازم ذاك فهل هذا إلـــه
تعالى الله عن إفك النصارى سَيُساَل كلهم عما افتراه
قال تعالى: )وما قتلوه يقينا( أي وما قتلوه متيقنين أنه هو، بل شاكين متوهمين )بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا( أي منيع الجناب لا يرام جنابه ولا يضام من لاذ ببابه )حكيم( أي في جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور التي يخلقها وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة والسلطان العظيم والأمر القديم )وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ( أي برفعي إياك إلى السماء )وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ(.
وقوله تعالى: )وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ( معنى ذلك )وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته( يعني قبل موت عيسى يوجه ذلك إلى أن جميعهم يصدقون به إذا نزل لقتل الدجال فتصير الملل كلها واحدة وهي ملة الإسلام الحنيفية دين إبراهيم # .
ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار عن ابن عباس )وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته( قال: قبل موت عيسى بن مريم # وقال العوفي عن ابن عباس مثل ذلك، وقال أبومالك في قوله: )إلا ليؤمنن به قبل موته( قال: ذلك عند نزول عيسى قبل موت عيسى ابن مريم عليه السلام لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا آمن به. وقال ابن جرير عن الحسن: )وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته( قال: قبل موت عيسى والله إنه لحي الآن عند الله، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون.
وقال ابن أبي حاتم: قيل للحسن: يا أبا سعيد ما تقول في قول الله عز وجل )وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته(؟ قال: قبل موت عيسى، إن الله رفع إليه عيسى وهوباعثه قبل يوم القيامة، مقاما يؤمن به البر والفاجر، وكذا قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد، وهذا القول هوالحق كما سنبينه بعد بالدليل القاطع، إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان.
ثانياً: جاء من قوله تعالى في محكم تنزيله: ) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُومَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوإِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائيلَ * وَلَونَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ*وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ([3].
وقوله تعالى )وإنه لعلم للساعة( جاء في تفسير القرآن العظيم لابن كثير(2/47) قوله: أي هذا عائد على عيسى عليه الصلاة والسلام فإن السياق في ذكره ثم المراد بذلك نزوله قبل يوم القيامة كما قال تبارك وتعالى: )وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته( أي قبل موت عيسى عليه الصلاة والسلام )ثم يوم القيامة يكون عليهم شهيدا( ويؤيد هذا المعنى القراءة الأخرى: {وإنه لعَلَمٌ للساعة} أي أمارة ودليل على وقوع الساعة، قال مجاهد: )وإنه لعلم للساعة ( أي آية للساعة خروج عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام قبل يوم القيامة.
وهكذا روي عن أبي هريرة وابن عباس وأبي العالية وأبي مالك وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله r أنه أخبر بنزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة إماما عادلا وحكما مقسطا.
وقوله تعالى: )فلا تمترن بها( أي لا تشكُّوا فيها إنها واقعة وكائنة لا محالة )واتبعون( أي فيما أخبركم به )هذا صراط مستقيم(.
وجاء عن الشنقيطي رحمه الله قوله: وإيضاح هذا أن الله تعالى قال: )وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ( ثم قال تعالى: )وَمَا قَتَلُوهُ( أي عيسى، )وَمَا صَلَبُوهُ( أي عيسى )وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ( أي عيسى )وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ( أي عيسى، )لَفِي شَكٍّ مِنْهُ(أي عيسى، )مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ( أي عيسى )وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً( أي عيسى، )بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ( أي عيسى، )وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلأ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ( أي عيسى، ) قَبْلَ مَوْتِهِ( أي عيسى، )وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً( أي يكون عيسى عليهم شهيداً.وكذلك في قوله تعالى: )وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ(، )وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ( أي عيسى ابن مريم وهذه الآية عائدة على ما قبلها )مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلأ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ([4]، )إِنْ هُو( أي عيسى، )إِلأ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ( أي أنعم الله تعالى على عيسى وهي الرسالة والمعجزات )وَجَعَلْنَاهُ( أي عيسى،) مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائيلَ([5]،) وَإِنَّهُ( أي عيسى، )لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ( أي عيسى إنه من علامات الساعة )فلا تَمْتَرُنَّ بِهَا ([6].
ثالثاً: قال تعالى: )وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ([7]، أي عيسى بن مريم حيث جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى: )إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ([8].
جاء هنا تفسيران أومعنيان لأهل العلم لكلمة - كهل - كما جاء في تفسير القرآن للقرطبي، فمنهم من قال: يكلم الناس في المهد (آية) ويكلمهم كهلاً (بالوحي والرسالة) آية أخرى.
ومنهم من قال: كلمهم في المهد وقد حدث، وسيكلمهم وهوكهل وهذا بعد نزوله بأمر الله تعالى من السماء، كما قال أبوالعباس: كلمهم في المهد حين برَّ أمه فقال: {إني عبد الله} وأما كلامه وهوكهل فإذا أنزله الله تعالى من السماء؛ أنزله على صورة ابن ثلاث وثلاثين سنة وهوالكهل فيقول لهم: {إني عبد الله} كما قال وهوفي المهد[9]، قال النحاس: إنما الكهل عند أهل اللغة من ناهز الأربعين (انظر تفسير القرطبي 4/ 91).
فبهذا يتبين لنا أن عيسى # كلَّم الناس وهوفي المهد، ولكن لم يكلمهم وهوكهل وخاصة بعد ما علمنا من علماء اللغة كما قال النحاس أن الكهل ما بلغ الأربعين، وما كان فوق ذلك. وقد ثبت في السنة عن أنس قال: قال رسول الله r لأبي بكر وعمر: {هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين، لا تخبرهما يا علي} [10].
ومعنى الحديث: أنهما أي أبا بكر وعمر كانا خيرا كهلين وجدا على الأرض بعد الأنبياء والمرسلين، فهما في الجنة كذلك، علماً أن أعمار أهل الجنة في سن ثلاثٍ وثلاثين لا يتجاوزه، لقوله عليه الصلاة والسلام: {يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا كأنهم مكحلون أبناء ثلاث وثلاثين} [11]. ولكن كناية على ما كانا عليه في الأرض من العمر, والله أعلم.
ومن المعلوم عند علماء التفسير أن عيسى عليه السلام رفع إلى السماء وهوابن ثلاث وثلاثين سنة، وينزل من السماء إلى الأرض وهو في هذا العمر.
وقد يسأل البعض: كيف رفع وهوابن ثلاث وثلاثين وينزل وهوفي نفس العمر ابن ثلاث وثلاثين؟ نقول:
أولاً: إن الأمر كله بيد الله تعالى فله الأمر من قبل ومن بعد.
ثانياً: إن السماء وما فيها من مخلوقات الله تعالى لا يجري عامل الزمن عليها كما هوالحال على الأرض، حيث إن الشمس والقمر اللذين جعلهما الله تعالى سبباً لمعرفة عدد السنين والحساب في هذا الكون وما فيه من أراض ٍ وكواكب وكل ذلك في ما دون السماء الدنيا، فعامل الزمن إذاً في السماوات مختلف عن عامل الزمن في الأرض وما شابهها من الكواكب، قال تعالى: )وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ([12]. وقد ثبت في السنة أن عيسى عليه السلام في السماء الثانية، كما صح ذلك عن الحبيب المصطفى r في قصة الإسراء والمعراج في حديث طويل نذكر منه: {… ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل قيل: ومن معك؟ قال: محمد قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة: عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا فرحبا بي ودعوا لي بخير; …}[13].
وهنا يحضرني حديث للحبيب المصطفى r يبين فيه أن الله تعالى حفظ عيسى عليه السلام من أن يدخل فيه القرين – أي قرين الشيطان والذي لم ينج منه أحد حتى رسول الله r كما ثبت عن عائشة، قال لها رسول الله r: {أغرت} قالت: وما لمثلي لا يغار على مثلك. فقال لها رسول الله r: {لقد جاءك شيطانك} قالت: أومعي شيطاني؟ قال: {ليس أحد إلا ومعه شيطان} قالت: ومعك؟ قال: {نعم ولكن أعانني الله عليه فأسلم} رواه مسلم عن عائشة ، وقد يكون ذلك عائدا لما قدره الله تعالى على عيسى بن مريم أن سيلبث فترة من الزمن يسكن فيها السماء والله أعلم، حيث قال r: {كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعه حين يولد غير عيسى ابن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب}[14].
أوقد يكون أصابته مع أمه دعوة ابنة عمران وهي أم مريم عندما دعت الله تعالى أن يحصنها ويحفظها من الشيطان الرجيم كما أخبرنا الله تعالى بذلك: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [15]. فاستجاب الله تعالى لدعائها كما جاء في حديثه عليه الصلاة والسلام {ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه} [16]. والله أعلى وأعلم.
رابعاً: لقد جاءت أحاديث النبي r التي وصلت حد التواتر والتي يشير فيها عليه الصلاة والسلام إلى نزول عيسى بن مريم عليه السلام آخر الزمان من السماء إلى الأرض، ويعيش فيها سنين عديدة بعد أن يقتل عدوالله الدجال ويتزوج ويحج البيت إلى غير ذلك.